وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾(النور:39)
وهو تمثيل يصوِّر أعمال الذين كفروا في بطلانها وعدم انتفاع أصحابها بها ، حينما يكونون في أشد الحاجة إلى ذلك النفع ، بصورة سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، فيتعلق به قلبه ، ويسعى إليه حثيثًا لاهثًا . وكلما بلغ به سعيه مرحلة ، وجده يتحرك أمامه ، ويفلت من بين يديه .. وهكذا إلى أن تتقطع أنفاسه وتخور قواه . وبعد هذا الجهد المتواصل والمعاناة الشاقة يصل إلى حيث كان يخيل إليه أنه ماء ، فلم يجده شيئًا ؛ فتتضاعف لذلك حسرته ، ويشتد يأسه وقنوطه ، وتغلي مراجل غيظه وظمئه . وليس هذا وحسب ؛ بل إنه يجد نفسه فجأة أمام هول رهيب ، يمسك بتلابيبه ، ويقوده إلى حتفه وهلاكه . كذلك الكافر يحسب أن أعماله في دنياه نافعةً له في آخرته ، فإذا كان يوم القيامة وقدم على ربه ، لا يجد لها أثرًا من ثواب ، أو تخفيف عذاب .
وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ظاهره العموم ، فيندرج فيه عبدة الأصنام من الأمم السابقة والأمم اللاحقة ، وأهل الكتاب من النصارى الذين عبدوا المسيح ، واليهود الذين اتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله تعالى ، والمجوس الذين عبدوا النار ، والمانَوِيَّة الذين عبدوا النور .. وغيرهم . وهو جملة استئنافية ، والموصول مع صلته مبتدأ ، خبره جملة ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَةٍ ﴾ من المشبه والمشبه به .
وكان نظم الكلام يقتضي أن يقال :﴿ وَأَعْمَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا أ كَسَرَاب بِقِيعَةٍ ﴾ . ولو قيل ذلك ، لكان بليغًا ، لما فيه من الإيجاز ؛ ولكن تعبير القرآن أبلغ ؛ لأن الحكم على هذه الأعمال بأنها باطلة فاسدة ، ليس لكونها كذلك في ذاتها ؛ ولكن لكونها أعمال أولئك الذين كفروا .. فلا شيء يبطل العمل ، ويجعله فاسدًا عديم النفع مثل الكفر ، ولا شيء يبقي عليه ، ويجعله مثمرًا نافعًا مثل الإيمان .
وعليه يكون المشبه به ، وهو :﴿ أَعْمَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ، مركَّب من محسوس ومعقول ، والمشبه به ، وهو :﴿ سَرَابٌ بِقِيعَةٍ ﴾ محسوس . أي : داخل تحت إدراك الحواس .
والسراب : ظاهرة ضوئية سببُها انعكاس الشعاع من الأرض عندما تشتد حرارة الشمس ، فيظنه الإنسان ماء يجري ويتلألأ على وجه الأرض . واشترط الفرَّاء فيه اللصوقَ بالأرض . وقيل : هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة ، وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء سارب . أي : جار . وسُمِّيَ بذلك ؛ لأنه ينسرب كالماء في مرأى العين ، وما هو إلا وَهْمٌ ، لا حقيقة له . ولهذا يقال :« السراب فيما لا حقيقة له كالشراب فيما له
وقوله تعالى :﴿ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب ﴾ بالتنكير ، ينبىء عن سراب ضئيل تافه ، بخلاف ما لو جيء به معرَّفًا . ووراء ذلك ما وراءه من تعلق نفس الظمآن بالأمل ، ولو كان ضعيفًا تافهًا . واستعمال الكاف ، دون غيرها من أدوات التشبيه ، يجعل هذه الأعمال- في حقيقتها وصورتها- في مرتبة أدنى من مرتبة السراب- في حقيقته وصورته- ووراء ذلك ما وراءه من إزراء لها ، واستخفاف بأصحابها ؛ ونحو ذلك تشبيه أعمال مثل الذين كفروا بربهم بالرماد في قوله تعالى :
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾(إبراهيم: 18) .
وصورة السراب الذي يحسبه الظمآن ماء ، وإن كانت تشترك في الموضع مع صورة الرماد الذي تعصف به الريح في المثل السابق ، إلا أنها تختلف عنها اختلافًا دقيقًا ومهمًّا ؛ وذلك في المغزى ، ولب الغرض .. وبيان ذلك :
أن صورة السراب تهتم بتصوير اللهفة ، والحاجة الماسَّة إلى الانتفاع بهذه الأعمال ، ثم الخيبة والمفاجأة بخديعة الأمل ، وأنه ما كان إلا وهمًا ؛ ولهذا كانت عناصرها : الظمآن ، والسراب . وهذان اللفظان هما- كما ترى- لهما دلالة قوية على هذا المغزى ؛ بل إن لفظ السراب يكاد يكون رمزًا حيَّا في هذا الباب .
أما القيعة فهي الأرض القفر المستوية التي لا تنبت الشجر . وقيل : هي جمع : قاع وقيعان ؛ كجيرة وجار وجيران . وقيل : القيعة مفرد ؛ وهو بمعنى القاع .. ولما كان السراب هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة ؛ وكأنه ملتصق بها ، جيء بالباء الدالة على الإلصاق في قوله تعالى :﴿ بقيعة ﴾ للتعبير عن هذا المعنى . ولو قيل
كسراب في قيعة ) ، لدل ذلك على أن القيعة كالظرف للسراب ، وأن السراب داخل القيعة ، وهو ليس كذلك ؛ ولهذا اشترط الفرَّاء في السراب أن يكون ملتصقًا بالأرض .
وفي قوله تعالى :﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء ﴾ إشارة إلى خداع النفس بعد خداع البصر بهذا السراب